الثلاثاء، 5 أبريل 2011

ليتني ما دعوته .. لكن .. لست نادمًا - قصة قصيرة - سلطان المصري



اليوم: الثلاثاء ؛ الخامس والعشرون من من شهر ينايرسنة ألفين وأحد عشر للميلاد
المكان : بيت مصري
الزمان : شاهد عيان
الأم _ بنبرة حانقة يمتزج بها الاستسلام _ : هتخرج برضو؟!
فارس: _ مختلط المشاعر ما بين السخط العارم والإشفاق على الأم المكلومة _
بكفايانا يا أمّي سكوت بقة ؟؟   لحد إمتى ؟ يلا ..سلامو عليكو   ادعيلي
الأم: _ تخفي دمعًا غافل الجفن ليظهر نفسه لفارس_ ربنا يحفظك يا ضنايا

ينطلق فارس متوجهًا إلى موقف السيارات باحثًا عن سيارة أجرة تقله إلى ميدان التحرير ، ولكن ما توقعه كان ؛ فلا توجد مواصلات متوجهة للتحرير ، يتفقد جيوبه لا يجد سوى عشرة جنيهات !!
محدثًا نفسه : عشرة جنيه !!  طب وبعدين !! تاكسي !! ممكن يطلب أكتر ممممم !
ودون تفكير : تاكسييييي .. ميدان التحرير ؟
سائق التاكسي : تحرير مين يا عم ؟ الدنيا مقلوبة هناك .
فارس : ما تشغلشي بالك .
السائق: لا .. لو هوصلك هيبقى آخري عند جسر أكتوبر
-         _مفكرًا برهة _  ماشي .. ماشي

 لم يتوقف فارس عن التفكير بينما هو في طريقه للميدان تساؤلات عديدة دارت بذهنه: يا ترى الأمن المركزي هيضربونا ؟ وأمن الدولة إيه نظامهم إنهاردة؟
خايف تكون المظاهرات المرة دي تكون هوجة وخلاص .. معقولة !!
وأمي ............؟!  ربنا يطمني عليكي يا أمي .

يا أستاذ .. يا أستاذ ؛ السائق مناديًا فارسًا وكما يبدوا أنه غير منتبه تمامًا بل يسبح في بحر من الأفكار والتساؤلات
فارس: ها... إيه وصلنا ؟
السائق : أيوة يا غالي
فارس: ضاربًا يده في جيبه بسرعة خاطفة ثم يعطيه النقود " ألف شكر يا أسطى "
السائق : خد بالك على نفسك يا أستاذ

يستعد فارس لصعود الجسروصولًا إلى الميدان يخالطه شعور بين التردد والثقة في النصر ، لكن ما يشجعه على الاستمرار وجود هؤلاء الشبان الذن يحملون أعلامًا ولافتات متجهين للميدان

يجري فارس دون تفكير للحاق بهم حتى يصبح ضمن كتلتهم في أقل من دقيقة بل يشعر وكأنه طفل ضلّ الطريق وجد أسرته بعد ضياع طويل ، وجد فارس نفسه يردد الشعارات ويحمل لافتة مكتوب عليها " الشعب يريد إسقاط النظام " .

كانت الجموع في تزايد مُطرَد والناس كأمواج بحر مضطرب يعلن غضبه ويصيح بأمواجه فتصعق فلول الخائفين .

يصل فارس والجموع إلى الميدان وليست مفاجأة لهم هذا السياج الأمني المفروض على الميدان ، وقد أعتم الميدان بهذا الزي القاتم الذي ينبيء بقتامة قلوب تلونت بهذا الزي ويبعث في النفس ضيقًا وسأمًا .

اليوم : السادس والعشرين من شهر ينايرسنة ألفين وأحد عشر للميلاد
المكان : كلية التجارة – جامعة القاهرة
الزمان : متوقف لحين إشعار آخر
يتجه فارس إلى كليته لأداء اختبار مادة المحاسبة المالية وقبل توزيع الأوراق يتجاذب أطراف الحديث مع صديقه مُسلـّم ؛
فارس : إيه مش ناوي تنزل الميدان ؟ يا ابني ما تخافش مش هيجرالك حاجة .
مُسلـّم  : ممممممم بص يا فارس أنا عارف إن وضع البلد وحش بس إنت عارف أنا ما ليش في الجو ده .. يا عمي أنا بخاف ..ارتحت؟؟
فارس _ وقد ظهرت على تقاسيم وجهه علامات حُنق _   جو ؟!  ياض بقولك دي ثورة ..ثوراااااا يا بني آدم .. إيه ما فتحتش كتاب التاريخ قبل كده ؟
مُسلـّم  : طب فكك دلوقتي الامتحان هيبدأ

بعد ساعتين ...
مراقب اللجنة :      انتهى الوقت .. رجاء غلق ورق الإجابات
يتوجه فارس ومسلم إلى الخارج ثم أخذا يتجاذبان أطراف حديث مقتضب في طريقه للخارج
مُسلـّم  : ها .. على فين ؟
فارس : ع البيت أطمن على أمي وبعدين ع الميدان إن شاء الله
مُسلـّم  : تاني الميدان ؟ يا ابني فاشل الكلام ده منتا شايف ما فيش حاجة حصلت
فارس: مُسلـّم بلاش إحباط وبكرة هتشوف .. البلد دي لازم تنضف وهتتغير بينا إحنا مش حد تاني .

يصل الشابان إلى الباب يتبادلان النظرات ما بين سلام وعتاب ، ثم ينصرف كلٌ إلى طريقه
مُسلـّم  : ما تيجي أوصلك

فارس : لا ..          طريقي غير طريقك

اليوم : الخميس ؛ السابع والعشرين من ينايرعام ألفين وأحد عشر
الزمان : مُشاهد ولا جديد
المكان : ميدان التحرير ( أرض النصر)

جموع حاشدة جعلت فارسًا يشعر بالقوة والخوف في آن معًا ؛ فهو يشعر مع هذه الجموع بأن صوته عالٍ جدًا ودويّ الهتاف له تأثيران: فهو يزكّي نار الغضب فتنخلع له قلوب النظام بكامل أركانه المتهالكة .

يمضي اليوم على هذا النحو ما بين هتافات واشتباكات وأروع ما في الأمر هذه الروح المسيطرة على المكان فالجميع يشعرون وكأنهم أسرة واحدة يتبادلون الطعام والشراب يقفون كدروع بشرية يحمون ظهور إخوانهم وقت الصلاة يضع المسل يده في يد المسيحيّ ويعلقان لافتة " مسلم ومسيحي إيد واحدة "

جنّ الليل لكن فارسًا شعوره اليوم مختلف فهو يشعر وكأنه لا يريد الخروج من الميدان .. يشعر أنه في بيته ، يتأل ساعته فيجد أنها تشير إلى الثانية عشرة مساءً
يفكر برهة محدثًا نفسه : زمان أمي نامت ؛ طب أروح أطلبها ع البيت أطمنها عليّا

يدق جرس الهاتف المنزلي وكأن صوته امتزج بهتافات التحرير ؛ تُهرع الأم إلى الهاتف مرددة : اللهم اجعله خير
الأم : ألو ..فارس
فارس :أيوة يا غالية … عرفتي منين ؟!
-         قلبي حاسس يا حبة قلبي .. اتأخرت قوي ليه كده ؟
-         مممعلش يا أمي .. أنا هَبَات هنا إنهاردة   
-         إيه !! تـِبـات !! ليه؟ ما تيجي وروح الصبح زي كل يوم . 
-         معلش يا أمي إحنا انهاردة معتصمين .. ما تخافيش عليّا وخدي بالك من نفسك وتربسي الباب كويس  
-         مش قادرة أقولك لأ .. طب توعدني تاخد بالك من نفسك
-         أوعدك . بس إنتي ادعيلي
-         (باكية) ربنا يحفظك يا فارس ويجعل النصر على إيديك
-         (باكٍ) لا إله إلا الله

-         محمد رسول الله

اليوم : الجمعة الثامن والعشرين من ينايرعام ألفين وأحد عشر للميلاد
المكان : كل مصر صارت تحريرًا
الزمان : يستعد للتحرك ..يستعد لموكب التغيير   

يؤذن للصلاة ثم تؤدي الجموع  صلاة الجمعة وبعدها ..
سيول بشرية تنجرف في اتجاه الميدان ليلتحموا بإخوانهم فينسد الخلل ولا ينفذ شياطين العذاب السود من بينهم ؛ أصوات طلقات نارية ، قنابل مسيلة للدموع ، السيارات التي ترش المتظاهرين بالماء ، ضباط وعساكر الأمن المركزي ومعهم عناصر الشطرة السرية في زي مدني يضربون المتظاهرين بلا هوادة حتى صارت أرض الميدان والشوارع المحيطة بها معركة أو بالاحرى ملحمة بكل ما تحمل الكلمة من معنىٍ .

يظهر من بين الملايين الثائرة فارس ؛ ها هو ممسكٌ بيده حجرًا، مُلثمًا للاحتماء من الغاز الخانق ، يكرّ ويفرّ لا يرجعه خوف ولا يثنيه عن ثورته إلا الموت .

الموت الذي ترك بصمة قوية في هذا اليوم فقد استضاف العديد من الشهداء في رحابه المتسعة إلى ما لا نهاية .

" هذا وقد بلغ عدد القتلى اثنا عشر شهيدًا بالإضافة إلى خمسين مصابًا في حالة خطرة أكثرهم في حالة اختناق شديدة "        تقرير الجزيرة

مُسلـّم : _ناظرًا إلى الشاشة الفضية   _ يا خبر أسود ..ده الموضوع قلب بجد .. فارس !! أحسن يكونوا قتلوه . – دون لحظة تفكير منطلقًا إلى الشارع
في أقل من دقيقة كان مُسلـّم داخل سيارته يقود في أقى سرعة ممكنة ولا يردد مع تهدجات صوته وزفراته : استر يا رب استر يا رب .

يصل إلى أقرب نقطة للميدان في أحد الشوارع الجانبية ، يترجل من سيارته في حالة الهلع لما رآه على أرض الواقع ؛ شباب محمول على الأكتاف ، نزيف دماء ، غاز خانق ، هرّاوات ، أحجار تـــُلقى ، متاريس ، ...........

يزداد خوف مُسلـّم ثم لا يلبث أن انصرف تفكيره كله ، شابان يحملان ثالثًا وقد أصيب في رأسه ، أحد الشابين _ صارخًا _ : امسك معانا ، يُهرع مُسلـّم إلى إلى الشاب دون تردد إلا أنه لا يعرف ماذا عساه أن يفعل ؟؟  يحمل معهم ولا يعلم إلى أين يذهبون .

يُسَرّح مُسلـّم بصره في الجموع الغاضبة ويهتف ويزداد لهيب الثورة ويزداد معه حماسه رويدًا رويدًا إلا أن هناك شيئًا ما يشغله !!
                                                                              فارس .
 يمر الوقت وإذا بمُسلـّم يلمح مَن يشبه فارسًا في زيّه وهيئته يحوال الاقتراب شيئًا فشيئًا .. إنه هو .. إنه هو .. إنه فارس
محدثًا نفسه : الحمد لله ما مَتـْشْ .
يحاول الصياح به ، ولكن هيهات
يهرول مُسلـّم نحو فارس وترتسم على وجه ابتسامة _ رغم الموقف العصيب _ لا يقوى القلم على وصف نقائها لأنها ........... مختلفة

يقترب مُسلـّم أكثر فأكثر حتى صار على مرمى البصرمن فارس وسرعان ما صار مسموعًا له ، يراه فارس فتبرق عيناه بنظرة لم يفهمها مُسلـّم
 مُسلـّم : الله أكبر .. الله أكبر .. تحيا مصر .. تحيا مصر تحيا........

فارس: مُسلـّم .. مُسلـّم ..
يجثو على ركبتيه ممسكًا برأس صديقه يضمها إلى صدره  وتنهمر دموعه الحارة .. رد عليّا .. يا حبيبي حقك عليّا .. أنا اللي قلتلك تيجي الميدان
بس .. بس أنا قتلك تيجي عشان بحب مصر ..وو بحبك
طيب قوم بينا ..  ُمسلـّم بلاش رخامة بقة .. أنا عارف حركاتك دي _ ويزداد بكاؤه بل يستحيل نحيبًا _ يعني خلاص يا مسلم بقيت شهيد ..شهيييييييد

فارس : _ وقد التف الشبان الثوار من حوله ليحملوا الجثمان الطاهر _ يردد
يا شهيد نام وارتاح وإحنا نكمل الكفاح
مصر يا أم ولادك أهُوم ..دول علشانك شالو الهم
آآآآآآآآآآه يا مصر وألف آآآآآآآآه
************************************ تمت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق